المقالات

​زينب عليها السلام نموذج القيادة في المحنة

 
قال الإمام السجّاد عليه السلام لعمّته زينب عليها السلام: "أنت بحمد الله عالمة غير معلّمة وفهيمة غير مفهّمة".
 
المحن محكّ الصدق والصادقين

إنّ حقائق وقيمة ومعادن النّاس إنّما تتجلّى أكثر ما تتجلّى في أوقات الأزمات والمحن وتحت ضغط المعاناة والمكابدة للمشاقّ.
ولهذا كانت الإشارة الإلهيّة إلى نوعيّة خاصّة من النّاس وهم المجاهدون الصابرون الصامدون الثابتون المضحّون حيث قال: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾.

ولئن كانت الأزمات بما تأتي به من شدّة وعنف أحياناً تتسبّب بالكثير من المعاناة النفسيّة إضافة إلى الجسديّة والماديّة والمعنويّة، فإنّها تشبه المرجل الذي تغلي فيه العواطف والمشاعر، وتنصهر في ناره وفي غليانه النّفوس بكافّة أبعاده، وما تحمل من مبادئ وقيم على وقع ما تثيره من توتّرات وتهديدات وأخطار تؤدّي إلى اختلاط الأمور وتداخلها، وتشوّش الرؤى، وتزلزل النّفوس وخوار القوى. وينعكس تذبذباً في المواقف وتراجعاً عن المبادئ.

والتنويه الإلهيّ في الآية السابقة يشير إلى ذلك أنّ هؤلاء الصادقين من صفاتهم الثبات وعدم التبديل، لا في القناعات ولا في المعتقدات ولا في الآراء ولا في الرؤى وحتّى في المواقف وإن رأوا الموت فيمن قضى على هذا الطريق نحبه.

فالأزمات والمحن هي المحكّ الذي يُحكُّ به النّاس لتظهر حقائقهم ومعادنهم، فبالمحكّ يظهر الجوهر من الحجر، وخصوصاً من يتحمّل مسؤوليّة القيادة، فالقيادة الماهرة الحاذقة القادرة والناجحة أكثر ما تتجلّى في أوقات المحن والأزمات وتحت صرير أنياب النكبات والمآسي.
ومن أهمّ النماذج التي تستحقّ أن تدرس في هذا المجال هو نموذج السيّدة زينب عليها السلام.

الأخطار التي واجهتها زينب عليها السلام
لا شكّ ولا ريب أنّ زينب عليها السلام تحمّلت في نهضة الحسين عليه السلام وثورته مسؤوليّات جساماً وأوكلت إليها مهامّ قبل المسير إلى كربلاء وفيها وبعد الواقعة، من موقع المعاضدة لإمام زمانه، فتارة كان هذا القائد هو الإمام الحسين عليه السلام وأخرى صار ابن أخيها الإمام السجّاد عليه السلام.

ومن موقع القيادة واجهت أخطاراً تتلخّص بأمرين: أوّلهما يتعلّق بدين الله دين جدّها الإسلام، حيث عبّر الإمام الحسين عليه السلام عن هذا الخطر بما ردّ به على مروان بن الحكم حيث قال: إني آمرك ببيعة يزيد أمير المؤمنين، فإنّه خير لك في دينك ودنياك، فقال الحسين عليه السلام: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمّة براع مثل يزيد....

والخطر الثاني: هو نفس بيت النبوّة الذي تعرّض لخطرين واحد له علاقة بطمس نوره وإغلاقه كبابِ هداية، بمعنى ضرب الإمامة فكراً وعقيدة، وثانياً: اجتثاثه بمعنى الإجهاز على السلالة بالقتل. وتأتَّى عن حوادث الطفّ مجموعة أخرى من الأخطار تتعلّق بالأرامل والأيتام ومعاناة السبي وشماتة الشامتين وسياط الجلّادين وغير ذلك.
إلّا أنّ الخطرين الرئيسين هما: تدمير الإسلام وتغييره ومسخه، والثاني: اقتلاع الإمامة ماديّاً وفكريّاً وعقائديّاً. أي إطفاء نور آل البيت.

زينب عليها السلام في المواجهة قائد
لقد لخّص الإمام الحسين عليه السلام نتائج القيام والنهوض في مواجهة الطاغية فقال: "من لحق بنا استشهد ومن تخلّف عنّا لم يبلغ الفتح"4 فالنتيجة هي شهادة أبطال هذه الثورة، ولكن ثمّة نتيجة أخرى هي حرمان المتخلّفين عن الالتحاق بالركب الحسينيّ من الفتح وليس فقط من النصر والغلبة.
 
إلّا أنّ الإمام الحسين عليه السلام أشار إلى أنّ تحقيق أهداف الثورة والقيام والنهوض له ثمنان أو بعبارة أخرى له تدبيران إلهيّان عبّر عنهما بقوله: "شاء الله أن يراني قتيلاً". "شاء الله أن يراهنّ سبايا".

فالركن الأوّل لتحقيق الأهداف ومواجهة الأخطار هو جهاد الحسين عليه السلام وصحبه واستشهادهم بالكيفيّة التي حصلت يوم العاشر من المحرّم، والركن الثاني من التدبير الإلهيّ لتؤتي النهضة أكلها وتنتج ثمرها هي تحمّل زينب عليها السلام والنساء والأطفال السبي ومواجهة الظالمين.

فقائد المواجهة العسكريّة في ساحات كربلاء هو الحسين عليه السلام، وقائد المواجهة الجهاديّة في قصور الظالمين وصحارى السبي وسياط الجلّادين هو زينب عليها السلام ، وبنجاحها بهذه القيادة يكتمل النجاح للثورة الحسينيّة.

إنّ المنصب القياديّ الذي تبوّأته زينب في المسيرة الحسينيّة اقتضت أن تحمل صفات تؤهّلها للنجاح فيها إذ لا يستطيع أن يتحمّلها إلّا من كان معصوماً أو قاب قوسين أو أدنى من ذلك، بمعنى العصمة الفعليّة وهذا ما أشار إليه الإمام السجّاد عليه السلام بقوله لها: "أنت بحمد الله عالمة غير معلّمة وفهمة غير مفهّمة".

وهي تحتاج إلى الشجاعة وقد ورثتها من أبيها عليّ عليه السلام، واحتاجت إلى بيان لا يقلّ عن بيان أمّها بل بيان أبيها سيّد البلغاء، ولذا قال فيها من سمعها وهو حذيم الأسديّ: لم أر والله خفرة قطّ أنطق منها، كأنّها تنطق وتفرغ عن لسان عليّ عليه السلام، وقد أشارت إلى النّاس بأن أنصتوا، فارتدّت الأنفاس، وسكنت الأجراس7، وذلك عندما خطبت النّاس في الكوفة، والشخص نفسه - أي حذيم - يصف أثر كلامها فيقول: فرأيت النّاس حيارى قد ردّوا أيديهم في أفواههم، وبدأوا بالبكاء وبانت عليهم علامات الحيرة والندم.
هذا إضافة إلى التربية الخاصّة التي حظيت بها من أبيها وأمّه، وكذلك الظروف والمحن التي كابدتها قبل عاشوراء بما أهلّها لتحمّل ما حملته في ذلك الظرف.

نموذج النجاح في المحن
إنّ زينب عليها السلام لم تنجح فقط في القيادة في المحنة، ولكنّها شكّلت النموذج للنجاح في القيادة في المحن حيث استطاعت بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام وابتداءً من هجوم الجيش على الخيام، أن تدير الموقف فحفظت الأطفال والنساء والإمام السجّاد، وكذلك حفظت سلالة الإمامة في قصر ابن زياد بما أثار تعجّبه حينما ألقت نفسها عليه فادية له بنفسه، وكذلك في مواجهة طاغية الزمان في قصره، وفي هذا الموقف نقول: إنّ القائد الفذّ هو الذي يستطيع أن ينقل الأزمة التي يريد عدوّه إيقاعه فيها إلى ديار العدوّ وإلى معسكر العدوّ وإلى نفس العدوّ.

فقد ألقت زينب عليها السلام خطبتها في مجلس الطاغية فهزّت أركانه وزلزلت بنيانه ونكّدت عليه فرحته بما اعتبره نصراً وإنجازاً، وملأت مجلسه وحاضريه الرعب في قلوبهم، وغلب عليهم التوتّر والخوف وقد قالت الدكتورة بنت الشاطئ فيها: أفسدت زينب أخت الحسين على ابن زياد وبني أميّة لذّة النّصر وسكبت قطرات من السمّ الزعاف في كؤوس الكافرين.

خاتمة
ويصحّ القول إنّ زينب عليها السلام قد أعلنت نتيجة المواجهة عندما قالت ليزيد لعنه الله: "فكد كيدك، واسع سعيك وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا".

فالبيت الهاشميّ ونبوّته والإمامة باقية والإسلام المرموز إليه بالوحي باقٍ، وأمّا الباغي فله عكس ما أمل: "ولا يرحض عنك عارها".
نعم لقد تحمّلت زينب عليها السلام المسؤوليّة ونجحت فكانت عند حسن ظنّ ربّها عندما قبلت أن تعاني في طريق الحقّ وفي سبيل الله، قابلة وراضية بالمشيئة الإلهيّة.

المصدر : كتاب زاد عاشوراء، جمعية المعارف الاسلامية

قائمة مراجعة وتحرير

شخصيات تركت: 500
التعليق مطلوب