Articles

الأصول الإسلامیة لتربیة الأطفال

 5/1/2015

عنایة الشریعة بالطّفل
نظرة سریعة فی التربیة المعاصرة:
تزداد تربیة الأطفال أهمیة کلما ازدادت الحیاة تعقیداً وتطوراً، وصحیح أن جوهر العملیة التربویة لا یتغیر بتغیر العصور ولکن النجاح فی استخدام الوسائل النافعة یصبح أبعد منالاً وأعز وجوداً کلما اتسعت طموحات الإنسان وتشابکت علاقاته الاجتماعیة.
فإذا کان تعلیم الطفل ـ مثلاً ـ ضرورة فی کافة العصور، فإنه قد کان یُکتفى منه بالإحاطة بعدد محدود من المعارف لیصبح مثقفاً وملماًً بعلوم عصره، کذلک کان یکفیه أن یلازم ذا حرفة حتى یصبح مهنّیاً متقناً، وحتى على مستوى الالتزام بتقالید المجتمع وآدابه لم یکن الجیل الجدید یعیش المعاناة والصراع فی هذا الالتزام، لأنه حتماً سوف یلتزم معظم آداب العصر بنحو هادئ وطبیعی عند خلو المجتمع من الطروحات المتمردة.
بینما نجد الأمر مختلفاً فی عصرنا، فإن الولد لا یمکن أن یعیش اهتمامات محدودة.. ولا فی مجتمع مغلق، ولن یکون ابن جیله وعصره إلاّ إذا أحاط بقدر کبیر من المعارف، وهو لن یکون حِرَفیاً ناجحاً إلاّ إذا أحاط بجملة علوم لها علاقة بحرفته، وإلاّ إذا درس الحرفة دراسة خاصة، کما أنه لیس سهلاً علیه أن یلتزم الآداب الشائعة فی مجتمعه الذی أصبح مفتوحاً على ألوان شتى من آداب المجتمعات الأخرى تجعله متنوع الخیارات کثیر الإغراءات.
بل حتى أن المربی ـ أباً کان أو غیره ـ لن ینجح فی عمله التربوی دون أن یکون فی مستوى جید من الثقافة، یخوله امتلاک الوسائل الناجحة، مضافاً إلى الأخلاقیة العالیة التی یجب أن یحوزها لضبط انفعالاته والتحکم بها.
هذا الأمر یجعل العملیة التربویة المعاصرة أکثر تعقیداً مما سلف من عصور، ویجعلها متجاوزة لمجرد تلقین الطفل المبادئ السلیمة فحسب، بل لا بد من توفیر البیئة المتوافقة مع هذه المبادئ، والتی تخفف من عناء الصراع لخیارات أخرى علمانیة، موجودة فی المجتمع الإسلامی المعاصر.
ففی التربیة المعاصرة لا بد أن یأخذ المربی فی اعتباره أنه بانٍ واحد خلفه ألف هادم، لیعیش بذلک مشکلة البناء ومشکلة دفع الهادمین عن العبث بهذا البناء وتدمیره.
کذلک فإن مصب البحث سوف یکون فی الأصول الإسلامیة للتربیة، نظراً لکونها موضع عنایة فائقة فی التشریع الإسلامی بسبب دورها الفاعل فی التغییر، سیما الأطفال الذین یحرص الإسلام على التفرد بتربیتهم لیصنع منهم رجالاً ونساء وفق موازینه وهدیه،ولیس أفضل من مرحلة الطفولة فرصة لفعل ذلک.
أما مسار البحث فإنه سوف یعالج العدید من المسائل التربویة، من قبیل عنایة الشریعة بالطفل، ودور الأسرة فی التربیة، ودور المؤسسات التربویة العامة، وتأثیر وسائل الإعلام الحدیثة على الطفل، ورعایة الیتیم، وأسالیب التربیة، ونحو ذلک من الموضوعات التی سوف نتناولها تباعاً وفی حلقات إن شاء الله تعالى.

عنایة الشریعة بالطفل
تعتبر مرحلة الطفولة من مراحل العمر التی لا تزول ذکراها من نفس الإنسان، فتجد کل واحد منا یستعرض أحداثها وأشخاصها وأمکنتها بحنین المستهام وحبور السعادة، لیکون لکل شیء ـ ولو کان تافهاً ـ معناه الکبیر ونکهته الممیزة.. وتأخذک النشوة العمیقة وأنت تستعید الذکریات، تمنیاً لو یدوم هذا العالم فیشمل العمر کله.
والسر فی ذلک میل الإنسان إلى العیش فی عالم هنیء مریح خالٍ من المسؤولیة والتبعات، الأمر الذی یتبدى فی عالم الطفولة.. حتى لو لم تکن سعیدة کثیراً، لأن مفهوم السعادة والشقاء لا وجود له فی مدارک الطفل، فإذا ذکر الطفل بعض الشقاء الذی قد عاشه.. أو بعض السعادة فإن لهما فی نفسه نکهة واحدة متقاربة.. یغیب شقاؤها فی سعادة الذکرى وسحر عالم الطفولة.
وهذا لا یعنی عدم الحرص على سعادة الأطفال، بل یستدل من ذلک على روعة هذا العالم الذی یصبح الشقاء فیه لوناً من السعادة لدى الکبار الذین یتذکرون طفولتهم.
ومن هنا ترانا نستعید ذکریاتنا عن طفولتنا وکأننا نستعید ذکرى یم من العالم الآخر عشنا فیه مشاعر النعیم المقیم.
ولکن..
ولکن هذه الطفولة الرائعة تستبطن فی داخلها کل تعقیدات الحیاة المستقبلة، بإنسانها وما فیه من مشاعر وآمال وآلام وأفکار وأخلاق، وبمجتمعها وما سوف یحدث فیه من علاقات وعدالة ومظالم وطموحات.
إن الطفولة هی الإنسانیة
 کما ینبغی أن تکون فی نقائها وبراءتها وبساطتها وسعادتها ویسرها.. بل وعدالتها، ولکن بفارق واحد، هو أن الطفل مارس حیاته فی طفولته من دون وعی لسموها، بینما الرشید یمارسها بوعی فیتمثل جمیع حقائقها لیسود السلام عالم الکبار.. مثلما قد ساد عالم الصغار.
کذلک فإن الطفولة هی ساحة من ساحات مسؤولیة الکبار، وموقع من مواقع الفتنة والاختبار، فإذا أحسن الکبیر رعایة أطفاله والعنایة بهم فإنه یکون قد أدّى بعض ما فی عهدته من تبعات جسام، وهیأ لعالمه الاستمرار بخلَفٍ قیِّم یبنیه على الأسس المتینة التی ینبغی أن تُبنى علیها جمیع مجالات الحیاة الأخرى.
ونکون بذلک قد أوجدنا حیاة جدیدة وعالماً جدیداً.. نأمل من خلاله ضمان مستقبل أفضل.
من هنا حرص الإسلام على رعایة هذا الموقع من مواقع الحیاة والتشریع له، کی یضمن نهوض الکبار بمسؤولیتهم تجاهه بنحو جید وکامل، فیحقق بذلک تواصل مراحل الحیاة جمیعها مع الشریعة،ویهیئ فرصة لنمو الإنسان نمواً صحیحاً یجعله یعیش التقوى فی بناء عالمه والنهوض بتبعات خلافته.
وقد ظهر هذا الحرص من خلال الأمور التالیة:
1 ـ العنایة بالنشأة:
لقد بات معلوماً ـ بعد کثرة المکتشفات العلمیة ـ تحکُّم العدید من العوامل فی تحدید طبیعة الحیاة التی سوف یکون علیها الجنین، فی أخلاقه ومزاجه وصحته وذکائه... بل وحتى فی إیمانه، فهو یتأثر بنحو قوی:
أ ـ بالوراثة للعدید من خصائص أسلافه، فی السمات والقوة والذکاء والصحة، فنرى لإسلام ینصح باختیار المرأة التی تساهم فی إکساب جنینها خصالاً حمیدة، فضلاً عن اختیار الرجل الشریف الجامع لصفات المحامد والخیر، وقد اشیر إلى ذلک فی أحادیث عدیدة.
ب ـ بالغذاء، حیث حثَّ الإسلام على:
1 ـ تناول مأکولات معینة حین الحمل.
2 ـ اختیار المرضعة العاقلة المؤمنة.
3 ـ تجنب محرمات معینة، یساهم تناولها فی إیجاد حالة من الانحراف تختلف حسب کل محرم، مثل النهی عن أکل الربا، وعن اظلم، وعن الزنا، فضلاً عن شرب الخمر وأکل لحم المیتة ونحوها.
جـ ـ بالحالة الفکریة والنفسیة التی یکون علیها الأبوان حین تکوّن الجنین وانعقاد النطفة، ولعله لأجل ذلک ورد الحثّ على التسمیة وقراءة أذکار معینة حین الجماع، وحین الولادة، وبعد الولادة
(1).
وأمام قداسة التشریع الإسلامی وسَداده، یصبح من نافلة القول التأکید على أن معظم هذه الأمور قد التفت إلیها العلم الحدیث ونبّه إلیها، بل وتوسع فی بعض مجالاتها، حیث تصبح عنایة التشریع بعالم الطفولة فی هذه المرحلة دلیلاً على حرص الإسلام على ولادة أطفال أصحاء فی نفوسهم وأمزجتهم وأجسادهم، لیکونوا بذلک نواة مجتمع سعید وقوی.
2 ـ تحدید المسؤول:
حیث لا بد من تحدید الراعی والکافل لهذا الولید، ما دام یولد ضعیفاً عاجزاً غیر قادر على تدبیر أموره لفترة طویلة تقارب الخمسة عشر عاماً، فلا بد له من أیدٍ أمینة مخلصة تشرف علیه حتى یصبح قادراً على تدبیر أموره بنفسه، والاستقلال بحیاته. ولما کان عدم التحدید موجباً للإخلال بهذا الأمر الحیوی فقد حرص الإسلام على التشریع لذلک بکل وضوح ومن جمیع النواحی کی یُخرج المسؤولیة من دائرة التبرع إلى دائرة الفرض والإلزام، وذلک على النحو التالی:
أ ـ فترة الحضانة:
فهی للأم بالدرجة الأولى لسنتین على الأقل ولسبع على الأکثر من تاریخ ولادته، ثم بعد ذلک للأب، فإذا فُقد الأب، فهی للأم ـ مرة ثانیة ـ إلى أن یبلغ.
وفی حال فقد الأبوی، فهی للجد للأب، أو لوصیّهما،.. وهکذا معالجاً شتى الاحتمالات فی موضوع الحضانة، مبیناً لشروطها، هادفاً لتوفیر أفضل الفرص لحضانة جیدة وسعیدة.
ب ـ الولایة:
ویراد بها الإشراف العام على شؤونه، حیث لا بد من ولیّ لهذا الطفل یوجهه ویربّیه ویصون أمواله ویعلِّمه، ولهذه الولایة أحکام مفصلة، یمتدّ بعضها إلى ما بعد البلوغ، وذلک کما فی تزویج البکر، وتتداخل فی عضها مع مرحلة الحضانة، وتکاد تقتصر على صیانة المال وإجراء المعاملات التی یشترط فیها البلوغ، مثل البیع والإجارة ونحوهما وفی حال عدم وجود ولی من الأقرباء فإن الولایة للحاکم الشرعی، وفی حال تعذر ذلک فإن الولایة لعدول المؤمنین، فیؤکد التشریع بذلک مسؤولیة المجتمع وتکافله فی هذا الإطار.
وثمّة تشدید على موضوع الأیتام وعنایة عظمة بشؤونهم لما یتبدّى فیهم من ضرورات یخشى التشریع من خلالها عدم الاهتمام بهم وسوء الرعایة لهم، وقد ظهر ذلک فی قوله تعالى:
 (وَیَسْأَلُونَکَ عَنِ الْیَتَامَى‏ قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَیْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُکُمْ وَاللّهُ یَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَو شَاءَ اللّهُ لأَعْنَتَکُمْ إِنّ اللّهَ عَزِیزٌ حَکِیمٌ) [البقرة / 220]، کما قد ظهر ذلک فی العدید من الأحادیث التی تحثّ على حسن رعایتهم، فعن النبی (صلى الله علیه واله): ((إن فی الجنة داراً یُقال لها دار الفرح، لا یدخلها إلاّ من فرّح یتامى المؤمنین)) (2).
وکما شدد على العنایة بالیتیم تخوفاً علیه، فإنه ولنفس السبب قد تشدد فی العنایة بالفتاة، فقد ورد فی الحدیث عن النبی (صلى الله علیه واله):
 ((من کانت له ابنة، فأدَّبَها وأحسن أدبها، وعلمها فأحسن تعلیمها، فأوسع علیها من نعم الله التی أسبغ علیه، کانت له منعة وستراً من النار)) (3).
وهکذا تتضح مسؤولیة کل فرد عن هؤلاء الأطفال، کی لا یُترک الأمر فوضى، فیتسبب فی ضیاعهم وتحولهم إلى بؤرة منحرفة، بدل أن یکونوا جیل المستقبل الذی یُؤمّلُ منه کل خیر.
3 ـ تحیید الأطفال وأمنهم:
هذا وإن أکثر الناس حاجة للأمن والحمایة هم الضعفاء، ذلک لأن الظالمین مجرمون ـ عادة ـ، فهم لا یراعون حرمة لأحد فی المظالم التی یمارسونها وفی الحروب التی یضرمون أوارها، وخوفاً من تورط المسلمین فی ذلک، وعدم صیانتهم لحرمة الضعفاء من الشیوخ والنساء والأطفال، فإن الإسلام قد أوصى بتحیید الأطفال فی الحروب وعدم الاعتداء علیهم وقتلهم، وقد ظهر ذلک:
أولاً: فی وصایا النبی (صلى الله علیه واله) لقادة جیشه، حیث ورد فی الحدیث أنه (صلى الله علیه واله) عندما یبعث الولی، مراعیاً فیها الأصول الإسلامیة ومندفعاً بکل إخلاص لإنجاز هذه المهمة السامیة وهی تأخذ أهمیتها الفریدة والممیزة من کونها الأصل فی نجاح الفرد فی حیاته ومساهمته فی بناء مجتمعه وسیره على
 النهج القویم الذی وصفه لله تعالى لعباده فی الأرض.
وعندما نلاحظ الإطار العام الذی وضعه الإسلام نعجب لهذه الدقة ولذلک السداد الذی شرَّع به الإسلام لحیاة الإنسان، وهذا الإطار محکوم للأمور التالیة:
أولاً: التدرج فی تربیة الطفل حسب مراحل العمر، فیترکه سبعاً ویؤدبه سبعاً، ویصادقه سبعاً، ثم یدعه یواجه الحیاة.
ثانیاً: عدم تربیته طبق مزاج الولی وأخلاقه الشخصیة، لأن لکل زمن أعرافه وآدابه، وهذا الطفل قد خُلق لزمان مختلف عن زمان جیل الولی.
ثالثاً: أن یُربى الولد بروح الرحمة والمحبة لا سریاه کان یوصیهم بقوله: (سیروا باسم الله، وبالله، وفی سبیل الله، وعلى ملة رسول الله، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شیخاً فانیاً ولا صبیاً ولا امرأة، ولا تقطعوا شجراً إلاّ أن تضطروا إلیه،..)
 (4).

رابعاً: جعلُ الإسلام والتقوى المصدر لهذه التربیة، والغایة لها أیضاً، فإن الحیاة جمیعها محکومة لله، وهذا الطفل یراد له أن یکون عبداً لله تعالى، ولن یکون کذلک إلاّ إذا کان مؤمناً تقیاً.
ثانیاً:
 سلخهم عن الانتماء الفکری، باعتبارهم على الفطرة، فإن الولد لا یوصف بالیهودیة ولا بالنصرانیة.. ولا بشیء آخر، وقد اشتهر الحدیث عن النبی (صلى الله علیه واله): ((کل مولود یولد على الفطرة، فأبواه یُهوِّدانه وینصِّرانه..)) (5)، الأمر الذی یساهم فی تحیید الأطفال لدى نشوب الصراعات المذهبیة والدینیة.
4 ـ الحث على حسن تربیتهم:
وهو بیت القصید، حیث ان سلامة النشأة، وتحدید الراعی
 الکفؤ، وصیانة الأطفال من الأذى، لیست إلاّ مقدمة للتربیة الجیدة الصالحة التی  ینبغی أن لا یتصدى لها بروح القهر والانتقام، انسیاقا مع الغضب الذی تسببه تجاوزات الطفل.
وهکذا یکون التشریع قد استوعب جمیع العناصر الأساسیة التی ینبغی مراعاتها فی حیاة الطفل، ملاحظاً له من زاویة کونه فرداً فی أسرة وفرداً فی مجتمع، ومورداً لعلاقات اجتماعیة متنوعة، وعلیه فإنه لا بد من التشریع له مثلما یشرع لکل جانب من جوانب الحیاة المهمة.
وإذا کان الفکر الحدیث قد التفت إلى ذلک مؤخراً فکرّم فی شریعته ونظامه، ومتجاوزاً التکریمالرسمی والشکلی لیجعله تکریماً رائعاً وخالداً بخلود الفکر.
وإن من غیر المناسب أن نقیس شریعة الإنسان ونقاربها بها، ولکن لا یزال أناس کثیرون مبهورین ببهارج الغرب، التی لا تعدو کونها مجرد غطاء لحقارة حضارتهم وسقوطها، حیث لا شرف لنا ولا کرامة إلاّ بالإسلام العظیم شریعة الله الخالدة.

 (1) انظر فی جمیع ما مر: مکارم الأخلاق للطبرسی، والوسائل للحر العاملی، وبحار الأنوار للمجلسی، باب النکاح ولواحقه.

 (2) میزان الحکمة /ج1/ ص765.

(3) المصدر نفسه / ج2/ ص74.

(4) المصدر نفسه / ج2 / ص328.

(5) بحار الأنوار / ج64 / ص133.

If you want to submit a comment, you should login to the system first. To login please click the login button.