Articles

مفهوم الوحدة فی الفکر الإسلامی

 5/1/2015
بسم اللّه‏ وباللّه‏ وعلى ملّة رسول اللّه‏ والصّلاة والسّلام علیه وآله.
أما بعد.. الوحدة وتألیف القلوب من أبرز ألطاف اللّه‏ تعالى بمخلوقاته. فقد اقتضت حکمته أن یقوّم کلّ شیء بالوحدة. فبدونها لا یقوم للشیء قائم ابتداء من المنظومة الکونیّة الواسعة وإنتهاء بالطبیعة والإنسان. فالکون متحد بما فیه الأجرام والنجوم والکواکب نظمت قوانینه على أساس الوحدة والوئام والانسجام والوفاق بین جمیع الفعالیات الکونیة. وإذا خرج جزء منه من دائرة الوحدة یختل النظام ویؤثر على الأجزاء الأخرى. فالوحدة الکونیة تُعدّ من آلاء اللّه‏ تعالى وعظمته المجموعة البشریة على وجه الأرض لیست بدعاً من خلق اللّه‏ وحکمته إنما تجری علیها حکمة الباری عزّ وجلّ کجریها على المنظومة الکونیة الواسعة. الفارق بینهما هو أنّ الوحدة فی المنظومة الکونیة تکوینیة بمعنىً قُدّر للکون أن ینتظم على أساس الوحدة ولیس له إرادة فی ذلک. أمّا فی المجموعة البشریة فتحقیق الوحدة من مسؤولیاتها. وذلک یتم عبر الاعتصام بحبل اللّه‏، قال تعالى : "واعتصموا بحبلِ اللّه‏ِ جمیعاً ولا تفرَّقوا واذکُروا نعمةَ اللّه‏ِ علیکُم إذ کُنتُم أعداءً فأ لَّف بینَ قلوبِکُم فأصْبَحتُم بنعمتِهِ إخواناً وکُنتُم على شَفا حُفرَةٍ مِنَ النَّارِ فأنقذکُم مِنها " (آل عمران : 103).
وتوحید العقیدة والقانون والرؤى والممارسات والمواقف تبعاً للتوحید فی اللّه‏ والارتباط به. وعلى هذا الأساس دعى القرآن المؤمنین باللّه‏ من جمیع الأدیان إلى کلمة سواء "قل یا أهلَ الکتابِ تعالوا إلى کلمةٍ سواء بیننا وبینکُم أَ لاّ نعبدُ إلاّ اللّه‏َ ولا نشرکُ بهِ شیئاً ولا یتّخذ بعضُنا بعضاً أرباباً من دونِ اللّه‏ِ " (آل عمران : 64)، 
هذه الوحدة مطلوبة على مستوى الأدیان المؤمنة باللّه‏ الواحد والخالق الواهب للحیاة. فالإنسانیة المؤمنة باللّه‏ الواحد الأحد لا یتکامل ولا یرتقی سلّم الکمال ولا ینال سعادتها إلاّ بالاحترام بالوحدة. فإذا خرج جزء من المجموعة الإنسانیة المؤمنة من دائرة الوحدة یختل النظام ویتزعزع الأمن والسلم الإنسانی.

فکرة الوحدة عند الإمام علی (ع)
لاحظ الإسلام فی موضوع الوحدة الحالة الإنسانیة حیث یعطی للإنسان مکانته وکرامته بغضّ النظر عن دینه وعقیدته. حیث أشار الإمام علی (ع) إلى ذلک عندما قال: "النّاس امّا أخٌ لک فی الدّین، أو نظیرٌ لک فی الخلقِ" حیث یروی لنا التاریخ عن غضب الإمام علی (ع) انتصاراً لرجل ترکه المسلمون بعد أن عجز عن العمل فقال لهم انه خدمکم فی شبابه وتترکونه فی شیخوخته، فأمر أن یُعطى له من بیت المال. وإذا کانت المدرسة الغربیة قد اکتشفت فی هذا العصر نظریة حقوق الإنسان.
فالإسلام أمّر بالحقوق الإنسانیة قبل أربعة عشر قرناً. فلو قُدّر للإمام علی (ع) أن یحکم البشریة بعمره المبارک لوحّدها بعدله، لحکمه على کلّ قوم بکتابه کما قال هو (ع) 

الوحدة بین المؤمنین
الوحدة بین المؤمنین بالعقیدة والمسیرة الواحدة هی أکثر القضایا ضرورة. ومن السذاجة أن نتصور جماعة إسلامیة معینة بأنها تستطیع أن تحقق أهداف الرسالة والأمة بمفردها لأن ذلک یعنی الغرور والعلو وتحقیر الجهود الأخرى وقطع الطریق لمشارکة الفصائل الأخرى وتهمیش دورها ومصادرة حقوقها وبالتالی خلق أجواء للتناحر الداخلی والتنافس على المواقع بدلاً من الخیر والجهاد. والتجربة أثبتت أنّ الضعفاء والحقراء هم الذین یتحصنون بالعلو والاستبداد الشعور بالأفضلیة یمنع الوحدة. 
قد یبتلى فصیل بالأمراض التی تمنعه من المساهمة فی صنع الوحدة بین أبناء الأمة الواحدة. وهذه الأمراض کثیرة من أهمها الشعور بالأفضلیة فقد یبتلى فصیل فی ساحتنا الجهادیة بهذا المرض، ویعتقد بأنه یمثل الحقّ المطلق دون غیره وبأنه صاحب الاستحکامات الجهادیة والسیاسیة، إنّ هذه الآفة هی مصدر الغرور والاستکبار والاستبداد وتحقیر الآخرین. والتجربة التاریخیة والمعاصرة أثبتت عکس ذلک. فمسیرة الأمة تتکامل وترتفع إلى مستوى مسؤولیاتها عبر التآلف والوحدة والتلاحم والانسجام وتوظیف التجارب المختلفة من العمل الإسلامی وصولاً إلى أفضل صبغة للعمل المشترک، فکل جهد وعمل یضاف إلى المسیرة الإسلامیة إنما یغنیها ویقربها من الأهداف الإسلامیة. فلا تستغنی مسیرة الإسلام عن أضعف جهد وعمل. کان الأئمة یستشیرون أبسط أصحابهم، ویُنقل عن الإمام الرضا (ع) أنه استشار غلامه بعد استشارة أصحابه، فقالوا هذا غلامک، فقال قد یجری اللّه‏ على لسانه الخیر. فبذلک جسّد الإمام هذه الحقیقة قولاً وعملاً.
ولعلّ ساحة الوحدة من أهم ساحات الامتحان الإلهی. والتاریخ نقل لنا أنّ بعض أصحاب الرسول (ص) المؤمنین الصادقین تنازلوا عن امتیازاتهم من أجل الوحدة الإسلامیة التی تخدم هدف الجمیع لأن المؤمن یسعى دائماً أن یحقق رضى اللّه‏ والانتصار لعقیدته وأئمة الهدى کانوا دائماً فی مقدمة المبادرین والمسارعین فی أمر الحفاظ على الإسلام.

الإمام علیّ (ع) وامتحان الوحدة 
مارس الإمام علیّ (ع) سیاسة المعارضة الشدیدة للنظام الذی غصب حقّه فی خلافة الرسول (ص) ولم یبایع الخلیفة إلاّ عندما أحسّ بالخطر یُداهم کیان الإسلام فاستسلم للوضع القائم حفاظاً على الإسلام حیث یشیر الإمام علیّ (ع) بنفسه إلى هذه القضیة قائلاً فخشیت إن أنا لم اُنصر الإسلام وأهله أن أرى فیه هدماً أو ثلماً تکون المصیبة به علیَّ أعظم من فوت وِلایتکم هذه التی إنّما هی متاع أیام قلائل یزول منها ما یزول کما یزول السراب أو کما ینقشع السحاب.
الاختلافات مصیدة الشیطان إنّ اختلاف القلوب یسبب الهوى والتنافس على حطام الدنیا وهی مصیدة کبیرة من مصائد الشیطان فالاختلافات تؤدی إلى أن یبتلی المؤمنون بالغیبة واللغو والکذب والنمیمة والبهتان وکشف العیوب التی سترها اللّه‏ بحکمته وبتسقیط المؤمنین وهتک حرمتهم التی هی أعظم عند اللّه‏ من حرمة الکعبة وبیت الحرام حسب ما جاء فی الروایات المرویة عن المعصومین (ع).

الوحدة وأُمنیاتنا 
الوحدة لا تتحقق بالشعارات والأُمنیات وإنّما تتحقق بأن یؤمن الجمیع انّ الوحدة هی قدرنا وفی ظلها تتحقق الأمة أهدافها وتبلغ غایاتها وإذا حققت الأمة الوحدة فی حیاتها تقترب من اللّه‏ ومن نُصرته وتأییده وتسدیده، فبدون الاذعان بأهمیة الوحدة والإیثار والتضحیة تبقى شعارات الوحدة مثیرة للاستهزاء. وتبقى الجهود التی یبذلها المخلصون مسحوقة تحت عجلة التناحر والتنافس على حطام الدنیا الزائلة، وتضیع عندئذ قضیة أمة مظلومة فتذهب جهودها وجهادها وتضحیات شهداءها الأبرار من القادة والعلماء المجاهدین ادراج الریاح.
المسلمون فی صدر الإسلام اعتصموا بحبل اللّه‏ فأ لّف اللّه‏ بین قلوبهم بعد أن کانوا أعداء فالتفّوا حول الرسول وجاهدوا فأنزل اللّه‏ علیهم النصر. وعندما ترکوا العمل بوصیته (ص) تسلّط علیهم الطواغیت، فالتاریخ لنا عبرة وأهمیة نابعة من الإستفادة منه وإلاّ فالسرد التاریخی یبقى مضیعة للوقت، إذن فالوحدة تتحقق بالإیمان باللّه‏ وبالإخلاص له وبالتعالی والترفع عن حطام الدنیا وبالإیثار والشعور بالمسؤولیة أمام اللّه‏ وبعدم الغفلة عن أمة تنتظر الخلاص من الظلم والاضطهاد. 
وفی الختام: لافتة شعر من الشاعر أحمد مطر حول فلسطین :
هرم الناس وکانوا یرضعون
عندما قال المغنیّ عائدون
یا فلسطین ومازال المغنی یتغنى
وملایین اللحون
فی فضاء الجرح تفنى
والیتامى من یتامى یولدون
یا فلسطین
وأرباب النضال المدمنون
ساءهم ما یشهدون
فمضوا یستنکرون
یخوضون النضالات على هزّ القنانی
وعلى هزّ البطون
عائدون
ولقد عاد الأسى للمرة الألف
فلا عُدنا
ولا ممّ یحزنون
وما توفیقی إلاّ علیه توکلت وإلیه أُنیب وصلّى اللّه‏ على سیدنا محمد وآله الطیبین الطاهرین وسلّم تسلیماً کثیراً.
If you want to submit a comment, you should login to the system first. To login please click the login button.